فصل: تفسير الآية رقم (171):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيِ امْتَحَنَّاهُمْ، وَبَلَوْنَا سَرَائِرَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي تَحْسُنُ، وَتَقَرُّ بِهَا الْأَعْيُنُ، وَبِالنِّقَمِ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَرُبَّمَا حَسُنَتْ بِالصَّبْرِ وَالْإِنَابَةِ عَوَاقِبُهَا، رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ.
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أَيْ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، خَلْفُ سُوءٍ وَبَدَلُ شَرٍّ، قِيلَ: إِنَّ الْخَلْفَ بِسُكُونِ اللَّامِ يَغْلِبُ فِي الْأَشْرَارِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَخْبَارِ خَلَفٌ بِالتَّحْرِيكِ كَسَلَفٍ وَرِثُوا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ عَنْهُمْ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَمَاذَا كَانَ شَأْنُهُمْ؟ الْجَوَابُ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى أَيْ: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الشَّيْءِ الْأَدْنَى، أَيْ هَذَا الْحُطَامَ الْحَقِيرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَى، وَالِاتِّجَارِ بِالدِّينِ وَالْمُحَابَاةِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا أَيْ: سَيَغْفِرُ اللهُ لَنَا، وَلَا يُؤَاخِذُنَا بِمَا أَذْنَبْنَا، فَإِنَّنَا شَعْبُهُ الْخَاصُّ، سَلَائِلُ أَنْبِيَائِهِ، وَنَحْنُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ إِلَّا أَمَانِيَّ، وَغُرُورٌ وَأَوْهَامٌ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ اهـ. وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُنَافِيهِ مُقْتَضَى السِّيَاقِ، فَأَوَائِلُ النَّصَارَى كَانُوا صَالِحِينَ، وَسَابِقُ الْكَلَامِ وَلَاحِقُهُ فِي الْيَهُودِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبِهِمْ، إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ آخَرُ مِثْلُ الَّذِي أَخَذُوهُ أَوْ بِالْبَاطِلِ يَأْخُذُوهُ لَا يَتَعَفَّفُونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللهُ فِي كُتُبِهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الذُّنُوبَ نَدَمًا وَخَوْفًا مِنَ اللهِ وَرَجَاءً فِيهِ، وَيَصْلُحُونَ مَا كَانُوا أَفْسَدُوا، كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ- خِطَابًا لَهُمْ- مِنْ سُورَةِ طه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (20: 82).
وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ قَدْ أُخِذَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ فِي كِتَابِهِ بِأَلَّا يَقُولُوا عَلَيْهِ غَيْرَ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِيهِ، فَمَا بَالُهُمْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ اللهَ سَيَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ كَمَا فِي آخِرِ سَفَرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ.
{وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَيْ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الرَّذَائِلَ وَالْمَعَاصِيَ خَيْرٌ مِنَ الْحُطَامِ الْفَانِي مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالرَّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى عَقْلٍ لَمْ يَطْمِسْهُ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ، فِي الْحُطَامِ الْعَاجِلِ، فَتُرَجِّحُونَ الْخَيْرَ عَلَى الشَّرِّ، وَالنَّعِيمَ الْعَظِيمَ الدَّائِمَ، عَلَى الْمَتَاعِ الْحَقِيرِ الزَّائِلِ! وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الطَّمَعَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ، وَلَا يَزَالُ هَذَا التَّفَانِي فِيهِ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ.
وَقَدْ سَرَى شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ، وَالْقُرْآنَ الْحَكِيمَ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ، غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِهِمُ الطَّمَعُ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الْقَلِيلِ، وَعَرَضِهَا الدَّنِيءِ، وَالْغُرُورِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّحَلِّي بِلَقَبِهِ، وَالتَّعَلُّلِ بِأَمَانِيِّ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ وَالشَّفَاعَاتِ، وَهُمْ يَقْرَؤُونَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْ نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَكَوْنِ الشَّفَاعَةِ لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (21: 28) وَلَنْ يَرْضَى الله عَنْ فَاسِقٍ وَلَا مُنَافِقٍ {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (9: 96)، بَلْ مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي أَخَذَهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّنَا مَعَ هَذَا كُلِّهِ اتَّبَعْنَا سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَّا أَنَّنَا نَحْمَدُ اللهَ أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ فِينَا غَيْرُ عَامٍّ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِينَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ يَطْعَنُ فِيهَا الْجَمَاهِيرُ الَّذِينَ صَارَ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ غَرِيبًا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ مِرَارًا بَلْ صَرَّحَتِ الْآيَاتُ بِالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَمَانِيهِمْ وَفِي فِسْقِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (4: 123) إِلَخ. وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (57: 16).
قَرَأَ تَعْقِلُونَ بِالتَّاءِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَهْلٌ وَيَعْقُوبُ وَحَفْصٌ، فَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْيَهُودِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِتَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ، وَتَجْتَنِبَ مَا كَانَ سَبَبًا لِسُوءِ مَآلِهِمْ، مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ {يَعْقِلُونَ} عَلَى الْأَصْلِ فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْغَائِبِينَ، وَلَوْ صَحَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ وَحْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ الْخَلْفِ، الَّذِي نَزَلَ فِيهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {يُمَسِّكُونَ} بِتَشْدِيدِ السِّينِ مَنْ مَسَّكَ تَمَسُّكًا بِمَعْنَى تَمَسُّكَ تَمَسُّكًا، وَمِثْلُهُ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} (49: 1) وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَّادٌ يُمَسِكُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِمْسَاكِ- أَيْ: وَالَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونَ بِعُرْوَةِ الْكِتَابِ الْوُثْقَى، وَيَعْتَصِمُونَ بِحَبْلِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَوْقَاتِهِمْ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَوْقَاتِهَا إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُصْلِحُونَ، وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، فَهُوَ خَبَرٌ قُرِنَ بِالدَّلِيلِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (18: 30). اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {والَّذينَ يُمَسِّكُون}:
فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان: أحدهما: الجملة من قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} وفي الرَّابط حينئذ أقوال:
أحدها: أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ ألْ قائمةٌ مقام الضمير، تقديره: أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مَأواهُ، وقوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] أي: أبوابُها، وقوله: {في أَدْنَى الأرض} [الروم: 3] أي: أرضهم، إلى غير ذلك.
والثاني: أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو: زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو: أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ.
الثالث: أنَّ الرَّابط هو العموم في {المُصْلحينَ} قاله أبُو البقاء.
قال: وإن شئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنسًا والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير.
قال شهاب الدين: العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر: [الطويل]
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ ** سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا

ومنه: نعم الرجُ زيدٌ، على أحد الأوجه:
والوجه الثاني- من وجهي الخبر-: أنَّهُ محذوف، تقديره: والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه.
وقوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ.
ولا ضرورة تدعو إليه.
الثاني من وجْهَيْ {الذينَ يُمَسِّكُون}: أنَّه محل جر نسقًا على: {الَّذين يَتَّقُونَ} أي: والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ.
إلاَّ انه قال: ويكون قوله: {إنَّا لا نُضيعُ} اعتراضًا سيق لتأكيد ما قبله.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول: ويكون على هذا مستأنفاص.
وقرأ العامَّةُ {يُمَسِّكُونَ} بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تَمَسَّكَ حكاه أهلُ التصريف أي: إنَّ: فَعَّلَ بمعنى تفَعَّل، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في تَمَسَّكْتُ بالحبل.
يقال: مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية {يُمْسِكُونَ} بسكون الميم وتخفيف السين من أمْسَكَ وهما لغتان يقال: مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ.
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله: [البسيط]
ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ ** إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ

ولكن أمْسَك مُتعدٍّ.
قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السماء} [الحج: 65] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره: يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ، أي: لأوامره ونواهيه.
وحجة عاصم قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
قال الواحديُّ: والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وهاهنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال: أمسكته، وقَلَّمَا يقال: أمسكت به.
وقرأ عبد الله والأعمش: {اسْتَمْسَكُوا}، وأبي: {تَمَسَّكُوا} على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ يُمْسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}.
يمسكون بالكتاب إيمانًا، وأقاموا الصلاة إحسانًا، فبالإيمان وجدوا الأَمَان، وبالإحسان وجدوا الرضوان؛ فالأَمانُ مُعَجَّل والرضوان مؤجل. ويقال: {يمسكون بالكتاب} سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة في المآل والمناجاة في الحال.
ويقال أفرد الصلاة هاهنا بالذكر عن جملة الطاعات ليُعْلمَ أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ}.
مَنْ أَمَّلَ سببَ إنعامنا لم تَخْسِرْ له صفقة، ولم تخْفِق له في الرجاء رفقة، ويقال من نقل (...) إلى بابه قَدَمَه لم يَعْدم في الآجل نِعمَهَ، ومَنْ رَفَعَ إلى ساحاتِ جوده هِمَمَه نالَ في الحالِ كرمه.
ويقال مَنْ تَوَصَّلَ إليه بجوده نال في الدارين شَرَفَه. ومن اكتفى بجوده كان اللهُ عنه خَلَفَه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (171):

قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته، وكان عذاب الآخرة مستقبلًا وغائبًا، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم، ليأخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم، فيكون علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال: {وإذ} أي اذكر لهم هذا، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ {نتقنا} أي قلعنا ورفعنا، وأتى بنون العظمة لزيادة الترهيب {الجبل} عرفه لمعرفتهم به، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون الطور- كما في البقرة- لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلظ القلب.
ولما كان مستغرقًا لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال: {فوقهم} ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله: {كأنه ظلة} أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازيًا لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله: {وظنوا} هو على حقيقته {أنه واقع} ولما كان ما تقدم قد حقق العلو، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء، فقال مشيرًا إلى السرعة واللصوق: {بهم} أي إن لم يأخذوا عهود التوارة، قالوا: ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجدًّا على حاجبه الأيسر، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعًا من سقوطه، وهي سنة لهم في سجودهم إلى الآن، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: فقالوا: أخذنا يارب عهودك، قال مشيرًا إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل: {خذوا ما آتيناكم} أي بعظمتنا، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال، وأكد ذلك بقوله: {بقوة} أي عزم عظيم على احتمال مشاقه؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسيه في وقت، قال: {واذكروا ما فيه} أي من الأوامر والنواهي وغيرهما- فلا تنسوه {لعلكم تتقون} أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع ما في الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئًا منه، قالوا: ولما قرأ موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهوديًا يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض رأسه. اهـ.